الجمعة، 14 يونيو 2013

الاحتقانات المذهبية داء يتطلب اهتماما عاجلا

 
الاحتقانات المذهبية داء يتطلب اهتماما عاجلا

ظاهرة خطيرة يمكن ملاحظتها من خلال تطورات أوضاع العالمين العربي والإسلامي في العقدين الأخيرين، تتمثل بتصاعد التوترات المحلية في البلدان التي تتدخل الولايات المتحدة الأمريكية فيها بشكل مباشر. فمن باكستان وأفغانستان إلى العراق وليبيا وسوريا، أصبحت الأوضاع الداخلية مضطربة على أصعدة شتى: سياسية واجتماعية ودينية. فليس جديدا اكتشاف وجود أعراق مختلفة  في البلد الواحد، أو انتماءات دينية أو مذهبية، ولكنها لم تؤد إلى اضطرابات أو مواجهات أو حمامات دم، كما حدث في العقد الأخير، وبالتحديد بعد حوادث 11 سبتمبر الإرهابية التي استهدفت أمريكا. فهل يعود ذلك إلى أن أمريكا لا  تستطيع العمل إلا في ظل الأنظمة الاستبدادية، وإنها تخطئ الاتجاه عندما تتحرك في بلدان تشهد تغيرات سياسية جديدة؟ وهل تسعى واشنطن لاقناع الجماهير بأن التغيير ظاهرة تبعث على القلق وتؤدي إلى الاضطراب وفقدان التوافق بين أبناء المجتمع الواحد؟ أم أن أمريكا تريد أن تبعث رسالة للعالمين العربي والإسلامي بأن السلم الاجتماعي لا يتحقق إلا في ظل الأنظمة القمعية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية؟ ما الذي يجعل القبائل الليبية تتقاتل في ما بينها في هذه الفترة بشكل خاص؟ أي بعد تسلم المؤتمر الوطني  العام السلطة من المجلس الوطني الانتقالي والتركيز على الأمن من بين أهم أولوياته. ما الذي يؤدي إلى اضطرابات خطيرة في تونس بعد أن توجهت نحو الاستقرار العام في ضوء الانتخابات البرلمانية التي اعقبت سقوط زين العابدين بن علي؟ ولماذا التناحر المتواصل في الصومال بين مليشات "الشباب" وبقية أطياف المجتمع حتى يصل إلى حد هدم المساجد بفتاوى دينية مهلهلة لا  تصمد أمام الدليل والبرهان. أمة المسلمين التي ما برحت تنوء تحت ثقل الوجود الأجنبي والاحتلال والاستضعاف وأنظمة الاستبداد، تعاني كذلك من ذوي التوجهات المتطرفة والتكفيرية وذات النزعة الدموية المقيتة. وقد وجدت بعض أنظمة الاستبداد في هذه الاتجاهات يدا ضاربة تستعملها لتمرير مخططاتها السياسية. هذه الأنظمة تروج تلك التوجهات وليست مقتنعة بها، ولكنها تفعل ذلك تقمصا، لتستخدمها ضد مناوئيها من جهة، ولترويج ثقافة عدم الخروج على الحاكم الظالم ثانية، ولشق الصف الوطني في البلد الواحد وحرمانه من الوحدة الضرورية لمواجهة الاستبداد والظلم من جهة ثالثة.

ثمة ثوابت يمكن اعتمادها ابتداء ليمكن طرح تفسير ظاهرة الاضطراب الاجتماعي والديني في  مرحلة ما بعد الثورة في العديد من الأقطار العربية والإسلامية. أولها: إن الاختلافات الدينية أو المذهبية يفترض ألا تكون ظاهرة دموية، وإن اتباع الديانات المختلفة والمذاهب الفقهية المتنوعة لم يدخلوا في صراعات دموية مسلحة إلا عندما توجد قوى أخرى تحرك الصراعات وتمد أطرافها بالسلاح والعتاد. ثانيها: إن التغيير السياسي الذي انطلقت ثورات الربيع العربي من أجل تحقيقه انطلق في أغلب البلدان بتوافق مجتمعي مستعليا على الاختلافات الفقهية والدينية. فوقف المسيحي بجانب المسلم، والشيعي مع السني في معركة الحرية وثورة الحقوق. فالنضال يوحد أهله ويقزم الاختلافات البينية مهما كبرت. ثالثها: إن اندلاع التوترات ذات الطابع الديني حدث بشكل أساسي في البلدان التي تبحث شعوبها عن الحرية والممارسة الديمقراطية، بعد أن تمردت على الوضع القائم الحليف في أغلبه للولايات المتحدة الأمريكية والغرب. رابعها: إن ما يطرح من قضايا كعناوين لذلك الصراع ومبرر له، مفتعلة في أغلبها، ولا تصمد أمام الدليل والبرهان. ولكن نظرا لطبيعة بؤر التحريض والتمزيق، فكل اختلاف صغير يمكن المبالغة في وصفه والترويج له بعناوين شتى وأهداف متعددة. خامسها: إن الأمة، لو تركت وشأنها، لغيرت أوضاعها نحو الأفضل بدون تحريك مشاعر الانتماء الديني أو المذهبي. ويمكن اعتبار مصر المدخل للتعرف على طبيعة المجتمع العربي المنتمي أساسا للإسلام، واعتبارها أيضا ساحة النزال والصراع في حال غلبة قوى الثورة المضادة وتأليبها للجهات المتطرفة التي تعيش على الفوضى والاختلاف والنزاع. وسواء كان هناك اتفاق على الرئيس محمد مرسي وسياساته وانتمائه التاريخي لجماعة الأخوان المسلمين أم لم يكن، فقد حان الوقت لتشجيعه على الاستمرار في سياساته التي بدأها بتحجيم دور العسكر في إدارة البلاد، طالبا منهم العودة إلى الثكنات، ولا يمكن التقليل من الخطوات التي اتخذها مؤخرا في هذا الجانب، وهي إجراءات ستضاعف غضب العسكر ضده، ولا يستبعد أن تستجمع قوى الثورة المضادة أمرها وتتصدى له لتسقطه، خصوصا إذا التزم بمبادئ تحرير مصر من القيود الأجنبية.

فمن حيث الأساس والانتماء ليس هناك ما يبرر احتقان العلاقات بين أبناء المجتمع الواحد على أية خلفية، بل إن مصلحة هذه المجموعات تقتضي التعاطي بعقل وحكمة مع مسائل الاختلاف في التفسيرات الدينية، وبالتالي لا يجوز إثارتها نظرا لما تنطوي عليه من تدمير ذاتي. وإن من مصلحة الجنس البشري بروز تفاعل فكري وسياسي وحيوية أيديولوجية تؤدي إلى تطوير الخطاب السياسي وعقلنة التوجهات الإصلاحية. أما التطرف في طرح أهداف الحراك الثوري فمن شأنه إجهاض الثورة. هذا لا يعني الجنوح نحو الميوعة السياسية، بل إن الطرح السياسي الحازم قادر على كسر حواجز التعتيم والإلغاء والتهميش والتشويش. والإشارة هنا إلى المجموعات التي تتنبى أيديولوجية جامدة ترفض التغييير أو الثورة على الحاكم الظالم، ولكنها سرعان ما تلتحق بركبها لتحقيق مآربها. فالمعروف أن بعض الاتجاهات السلفية المتشددة كانت ضد الثورة على نظام مبارك، ولكنها سرعان ما هرعت لقطف ثمار التغيير. وكذلك الأمر في تونس وليبيا. هذا مع الاعتراف بأن الاتجاه السلفي ليس متجانسا بل يضم توجهات من بينها التكفيري ومنها الداعم للأنظمة القائمة وتحريم الخروج عليها، ومنها من يتصدى للوجود الأجنبي على أراضي المسلمين كهدف أول، ومنها من يعتبر أن "تطهير" الدين باستئصال كل ذي فكر مخالف أولوية لا يسبقها شيء. وثمة مؤاخذات كبيرة على التوجه الفكري والسياسي للجماعات المحسوبة على التيار السلفي، ولكن المشكلة الأساسية إن تأثير الدولار النفطي أدى إلى استغلال هذا الاتجاه وإعادة توجيهه ليخدم سياسات الدول المعادية للإصلاح والتغيير. إنه استغلال أدى إلى كثير من الاحتكاك وتوتر العلاقات وتعكير الأجواء التي كانت واعدة. ويمكن ملاحظة أن ثمة أنظمة سياسية أصبحت قادرة على استغلال مجموعات سلفية وتوجيهها ضد الآخرين، بتعكير أجواء بلدانها واستهداف مقدسات الآخرين من مساجد وأضرحة بدعوى محاربة الشرك.

إن من السذاجة بمكان اعتبار ما يجري في بلدان الثورات حوادث عابرة أو خلافات طبيعية، بل هي  اضطرابات مدبرة وموجهة لتحجيم الأنظمة المنتخبة من قبل شعوبها، ومنعها من النمو والتأثير الإيجابي على الدول الأخرى. فما يجري في ليبيا من مواجهات مسلحة بين القبائل أو بين المجموعات السلفية والصوفيين، وما يجري في تونس من تأهب مجموعات سلفية للانقضاض على الأنظمة الفنية والثقافية والتجمعات الحزبية في ذلك البلد، وما تشهده مصر من عنف مفتعل في سيناء، أو ما تتعرض له ثورة البحرين من استهداف بذرائع طائفية، كلها تشير إلى أيد مشبوهة تعمل ليلا ونهارا لإضعاف الحراك الثوري وتقليل إشعاعه وإزالة بريقه. ومهما كان تقييم نتائج الربيع العربي، فإنه ما يزال يمثل مصدر إزعاج وأرق للأنظمة الشمولية التي تشعر بأنها مستهدفة من شعوبها بسبب غياب الحرية والممارسة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. وبدلا من تصدي هذه الأنظمة لمشاكلها الداخلية خصوصا في مجال التعددية والشراكة السياسية، تسعى لاستهداف مضمون الحراك الثوري وحرفه بعيدا عن مساره الطبيعي. إن مرحلة ما بعد الثورة تتطلب إعادة بناء البلدان التي دمرت اقتصادها وبناها الاجتماعية والإنسانية بسبب عقود القمع والاضطهاد والاستبداد، بينما يتم إشغال الحكام الجدد المنتخبون بقضايا هامشية تقلل أهمية ما حققوه من تغيير، وتروج لأنظمة الحكم الاستبدادية بدعاوى الحفاظ على الأمن الاجتماعي ومنع الاضطرابات التي تحدث عادة في حالة الانفتاح السياسي. فكما اختلقت لإيران في بداية ثورتها اضطرابات عرقية في مناطق كردستان وأذربيجان وخوزستان وبلوشستان، وكما حدث للسودان من اضطرابات أمنية أدت في النهاية إلى انفصال جنوبه عن شماله، فإن هناك توجها لإشعال الحرب بين الطرفين.

فقد أدت عودة مئات الآلاف من الجنوبيين إلى ديارهم بعد استقلال جنوب السودان العام الماضي إلى زيادة النزاعات على الأراضي، خصوصا أن عدم وجود قوانين خاصة بالأراضي يعني أن الدولة الجديدة غير قادرة على مواجهة هذه المشكلة. وقال رئيس لجنة الأراضي في جنوب السودن روبرت لادو إن تدفق العائدين يؤدي إلى إشتعال العنف ويهدد الأمن في جوبا عاصمة الدولة الوليدة. وأكد أن مدينة جوبا تتضخم بشدة لأن العائدين يعودون برا ويعودون جوا." أما ليبيا فقد قتل عدد من الأشخاص الأسبوع الماضي وأصيب آخرون في معارك شرسة بين قبيلتين بالقرب من مدينة زليتن بغرب ليبيا. وكان ذلك اختبارا للجهود الانتقالية لتحسين أوضاع الأمن بعد الانتفاضة التي أنهت حكم معمر القذافي. وتشكل تهدئة الخصومات بين مناطق البلاد قضية صعبة لزعماء ليبيا الجدد وتبرز حوادث العنف الأخيرة الصعوبات التي ينطوي عليها استعادة الأمن. وفي تونس اعتدت المجموعات السلفية الأسبوع الماضي على أنشطة فنية وثقافية وتجمعات حزبية في وقت حذرت فيه وزارة الثقافة التونسية من الاحتقان المذهبي. جاء الاعتداء على معارض الرسم بذريعة إنها "تفسد الأخلاق العامة ولا تتوافق مع أحكام الشريعة" على حد قولهم. وها هم مجددا يعطون نموذجا جديدا عن ربيع تونس بشكل خاص و"الربيع العربي" المزعوم بشكل عام. وبعدها هاجم مسلحون سلفيون بالسيوف والهراوات والحجارة "مهرجان الأقصى" في مدينة بنزرت في شمال البلاد، واعتدوا على عدد من الحاضرين إصابة بعضهم خطيرة، بحسب مسؤول بمكتب الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في بنزرت بشير بن شريفة. وتم تهريب ضيف شرف المهرجان الأسير المحرر سمير القنطار الذي احتج السلفيون على وجوده، من الباب الخلفي خلال هذا الهجوم. ولا تخلو أوضاع سوريا من أعمال تتصل بالاحتقان المذهبي الذي تثيره المجموعات السلفية لتبرير أعمال الانتقام. الأمر المؤكد أن هذه  المجموعات تمارس هذه الأعمال تنفيذا لأجندات الآخرين ذوي الأهداف السياسية والأيديولوجية المتصلة بالاستبداد والحكم الشمولي. فعندما يتبنى نظام ما كالنظام السعودي التوجهات السلفية والوهابية فإنه ينطلق بدوافع وأهداف سياسية وليس لاعتبارات دينية، بل يستغل التباين الديني أو المذهبي كوسيلة لإرباك المجتمع وإشغاله عن قضايا التغيير والديمقراطية.

إن لكل حريق شرطين: المادة المشتعلة وعود الثقاب، ومن يشعل أعواد الثقاب يختلف عن الوقود المحترق. فالمجموعات المتطرفة كثيرا ما تستخدم لتحقيق أغراض الآخرين، ولكن بتحريضها باللغة التي تفهمها. فاستهداف الآخرين في معتقداتهم وطقوسهم أمر مقدس لدى هذه المجموعات، ولكن ما يهم القوى المحرضة ليس  الطقوس والممارسات لدى الآخرين، بل الوئام المجتمعي الذي يخلق التماسك ووحدة الصف، ويركز الأنظار على احتياجات البشر خصوصا في مجال الحرية والحقوق الإنسانية والسياسية. الأنظمة الشمولية تعرف أن الوحدة المجتمعية ضرورة لأي حراك سياسي جاد، خصوصا إذا كان بشكل ثوري. فالشعوب تتوحد على المطالب السياسية ولكنها قد تختلف في قضايا الدين والعبادة والعرق، وهي أمور طبيعية وعادية ويستطيع البشر التعايش مع الاختلافات النسبية. ولكن المشكلة تبرز عندما تستغل الأنظمة هذه الاختلافات وتوجهها من أجل إحداث شروخات في الصف الوطني لمنع تلاحم قوى التغيير. فالاضطراب الديني أو المذهبي أو العرقي يحول دون توحد المواطنين في منظومة تغييرية واحدة. وتؤكد ثورة الشعوب العربية وجود قدر جيد من التعايش والاحترام المتبادل بين أبناء المجتمع الواحدة والأمة الواحدة، ما لم تتدخل أيد خارجية لحرف مسار الوحدة وتعبث بثوابت الناس ومعتقداتهم. وإذا كانت ثورتا تونس ومصر قد حدثتا بسرعة هائلة لم تترك متسعا من الوقت لقوى الثورة المضادة لتفتيت المجتمع الثائر، فإن هذه القوى استعادت قوتها لاحقا وعادت مجددا لإثارة تلك الاختلافات وجعلها أساسا للمواجهة بين الانظمة الثورية والمجموعات الراغبة في إثارة الفتنة والتشبث بالأمور الصغيرة في مقابل الأهداف الكبرى. وما أسهل السقوط في وحل الاستقطابات أيا كان شكلها، فإن حدث ذلك تعرضت قوى الثورة لردة فعل عكسية ونتائج كارثية، كما يحصل الآن في ليبيا وتونس، وكما حدث في مصر. لكن هذا البلد الكبير قادر على حماية نفسه بتأكيد مكاسب ثورته ودعم مؤسسساته الدستورية الديمقراطية والتصدي لقوى الثورة المضادة التي تعبث بأمن المواطنين ووحدة كلمتهم وثورتهم. المطلوب وعي فكري فاعل لإجهاض محاولات تفتيت الصف المجتمعي، فذلك هو الطريق الأقصر لتحقيق الأمن. مطلوب وعي النخبة بأساليب قوى الثورة المضادة، والاجتهاد في وضع الحلول التي تحول دون ذلك.

د. سعيد الشهابي
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن