بسم
الله الرحمن الرحيم
(فَأَخْرَجَ
لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)
صدق
الله العلي العظيم
صراع
الحق والباطل هو ذاك الصراع الأزلي الذي بدأ مع خلق آدم عليه السلام، وأراد الله له
أن يستمر لينتهي بنهاية محتومة بتحقق وعد الله جل شأنه (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).
ورغم أن أشكال هذا الصراع تتباين بتباين الزمان والمكان، إلا أن معطياته تظل ثابتة،
وأطرافه كذلك: طرف يمثل الحق البيِّن، وآخر يمثل الباطل البيِّن، وثالث يكون مع الحق
في ظاهره ويناصر الباطل في باطنه، حتى تسنح له الفرصة فينقض على الحق انقضاض الصقر
على فريسته، ليس بُغضاً في الحق أو حباً في الباطل بالضرورة، وإنما لسُقمٍ في النفس
مبعثه التكبّر والتعالي، حيث يرى في نفسه الأحقّية في الريادة والسيادة. ولهذا، لا
نجد أن الله جل شأنه قد سَنَّ الابتلاء لأهل الباطل، لأن الباطل ومن تبعه مدحوضٌ بموجب
الوعد الإلهي القاطع، بينما سنَّ ذلك للفريق الآخر، فقال عز من قائل: (أَحَسِبَ النَّاسُ
أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ
مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
وهذا
ما يتجلّى في كل قصص القرآن الكريم، ومن بينها قصة قوم موسى عليه السلام (فاقصص القصص
لعلهم يتفكرون)، فماذا كان من شأن قوم موسى؟!
آياتٌ
بيّناتٌ جاء بها موسى عليه السلام تترى، الآية تلو الأخرى.. (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا
هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ)،
فكان العناد إذ نادى فرعون في المدائن طلباً للاستعانة بالقوة التي يقهر بها موسى عليه
السلام (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ)، وكان ذلك (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ
يَوْمٍ مَّعْلُومٍ)، لينتهي الأمر بثعبانٍ عظيم يأكل عصي السحرة وحبالهم، (فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) و(قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ
عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ
إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ
لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)،
أما فرعون (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى).
ثم
كانت الآية العظمى التي بهرت أعين الناس، حيث أمر الله جل شأنه موسى عليه السلام أن
يسري بقومه (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لّا تَخَافُ دَرَكًا
وَلا تَخْشَى)، فتبعهم فرعون على رأس جنوده غروراً وتبجحاً مستصغراً أصحاب الحق بـ(إنَّ
هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ
حَاذِرُونَ)، (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ
فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ، وَأَنجَيْنَا
مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ).
ولولا
أن بَيَّن القرآن الكريم ما جرى من قوم موسى بعد هذه الآية الجليلة، لكان لنا أن نغبط
قوم موسى على ما هم فيه من إيمان بعد أن رأوا وتيقنوا أن (وعد الله حق) وأن (الله لا
يخلف الميعاد)، إلا أن الله جل شأنه وصف واقع الحال بقوله (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم
مُّؤْمِنِينَ)، رغم كونهم كذلك في الظاهر، وهذا ما استلزم ابتلاءً آخر يترك الله جل
شأنه فيه القرار للقوم أنفسهم دون أن يكون لهم فيه موجِّهٌ ومُرشد، فأبعد موسى عليه
السلام (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ
مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)، مخلّفاً أخاه هارون النبي (وَقَالَ مُوسَى
لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)،
ثم غَلَّب القوم على هارون (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي)،
وأخبر موسى عليه السلام بما جرى من ابتلاء فـ(قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ
مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ)، (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ
خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)..
ذات
الصورة لذات الصراع، تتكرر بتفاصيلها مع اختلاف أدوات العصر.. آياتٌ بيِّنات تزيل اللبس
عن طرف الحق، وتُعري الباطل، الآيات تتلو الآيات، ولا يزال القوم يناصرون الباطل على
الحق (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ) بصدق وعد الله.. لا زالوا يرون الاعتبارات
الإقليمية قادرة على صدِّ إرادة الله ووعده في إزالة من تسمَّى بجلال الله وعظمته،
ويرون في أمريكا منبع كل سَحَّارٍ عليمٍ قادرٍ على قهر تلك الإرادة الإلهية، دون أن
يروا أن نهاية السحرة كانت الانقلاب على فرعون، لأن إرادة الله كانت أقوى من سحرهم
وقوتهم.. ذات الصور وذات الآيات وذات الترتيب وصولاً لعجل السامري وخواره الذي أضل
القوم (فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى).
ولكي
نُدرك أبعاد المشهد بصورة أدق، لنتأمل بعض مفردات الآيات الكريمة، وكذلك مفردات الواقع
المحلي في بحرين الثورة، وليكن المدخل بجملة من التساؤلات:
1- من هو السامري؟ ولماذا نجح في قيادة القوم نحو
الهلاك؟
2- هل كان السامري ليُفلح في ما ذهب إليه من رأي
ورؤية (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) لولا أن ناصرته جماعة استغنت عن
عقلها فتركت آيات الله البيِّنة واتبعت رأي السامري، ثم انبرت للدفاع عنه، إذ لا تُخبر
الآية الكريمة أن السامري وحده من دافع عن هذا الرأي، بل تقول (فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ
وَإِلَهُ مُوسَى...)، وليس (فقال...)؟
3- ما هو الخوار؟ ولماذا انجذب خلفه القوم؟
4- ما كانت حجة هارون؟ وما كانت ردة فعل موسى عليهما
السلام؟
5- كيف كانت نهاية السامري، ونهاية العجل وخواره؟
نكتفي
بهذا القدر اليسير من الأسئلة، والتي تبدو إجاباتها واضحة كالشمس في رابعة النهار،
ولكن نستطرد بعض الشيء لعل البعض لا يزال مصراً على ارتداء نظارته السوداء لكي لا يرى
نور الشمس:
السؤال
الأول: من هو السامري؟ ولماذا نجح في قيادة القوم نحو الهلاك؟
ليس
يهمنا في هذا السؤال قطعاً شخص السامري ولا نسبه، إذ أن الغرض هو البحث عن الحق، و(لا
يُعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله) كما يقول أمير المؤمنين الإمام علي عليه
السلام، إذ قد يلتبس الأمر على البعض فيخلط بين المنهج ومن يمثل ذلك المنهج، سواء كان
في الدين أو في غير ذلك..
السامري،
هو أحد أفراد قوم موسى الذين عبر بهم البحر بإعجاز الله جل شأنه، إذ شق موسى البحر
بعصاه فنجّى موسى ومن معه وغرق فرعون ومن معه، أي أن السامري لم يكن في فريق الكفر،
بل كان مع موسى منذ بداية مشواره، فقاسى ما قاسى القوم وخرج حيث خرج القوم ولم يتخلَّ
عن ساحات الجهاد أو يتخلَّف عنها. هذه هي الصفة الأولى، أما الصفة الثانية، فإنه أكثر
علماً واطلاعاً من الآخرين بحسب إقراره وبتقرير الآية الكريمة (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا
لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ)، أي أنه "رأى ما لا يراه الآخرون". وهذا الأمر يتبين
أيضاً في جواب قوم موسى لما سألهم غاضباً (أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا
أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن
رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي)؟ حيث (قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا
وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ
أَلْقَى السَّامِرِيُّ)، مصرِّحين بأنهم انقادوا ولم ينطلقوا من رأيهم وعقلهم (مَا
أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا) وأنهم "حُمِّلوا أوزاراً من زينة القوم"
أي أن هناك من حَمَّلهم أوزاراً من زينة القوم بما انقادوا خلفه دون وعي وإرادة، لكنهم
لم يُبرِّؤوا أنفسهم تماماً فأقروا أنهم ساروا في ذلك المنحى الذي عطلوا فيه عقولهم
وانقادوا خلف من وجهَّهم بمحض إرادتهم حيث قالوا (فقذفناها)، أي أنهم هم من قام بالفعل،
وإن كان ذلك نتيجة الانقياد الأعمى خلف ذلك القائد الذي كان "يرى ما لا يرون".
الصفة
الثالثة من صفات السامري هي أنه اجتهد برأيه مقابل آيات الله البيِّنات، فقد سبق صناعة
عجل السامري آياتٌ كما سلف الذِّكر كان آخرها فلق البحر، حيث كان (كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ
الْعَظِيمِ)، ومع ذلك غلَّب السامري رأيه على تلك الآيات، فجاء بالعجل وقاد قومه من
خلفه نحو الضلال وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً حتى إنهم تجرؤوا على نبي الله هارون
عليه السلام (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي)، وقد أكد
السامري على أن هذا الأمر من اجتهاده ورأيه وأنه ليس الحق بالضرورة حيث قال (كَذَلِكَ
سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي).
هذا
بالنسبة للشق الأول من السؤال، أما الشق الثاني المتعلق بأسباب نجاح السامري في قيادة
القوم نحو الهلاك فيتمثل في وجود بعض العناصر والعوامل المساعدة، منها –روماً للاختصار
ليس أكثر- تاريخه الإيماني بموسى ورسالته، مشاركته موسى وقومه وصبره على البلاء معهم،
علمه ومعرفته التي تفوق معرفة القوم، ولولا أنها كانت معرفة وعلماً دينياً لما انقاد
له القوم في أمرٍ ديني، وأخيراً جرأته في عرض رأيه على أنه هو الحق، إذ ليس من القوم
-ومنهم من هو حديث الإيمان ومنهم من هو ضعيف الإيمان- من يتجرأ بعد كل ما رأوا من آيات
أن يقول بإله غير حقيقي، لا سيما وقد أغرق الله فرعون للتو بعد أن كان يقول (أنا ربكم
الأعلى). أما العوامل المساعدة فيأتي في مقدمتها ضعف الثقة بالنفس وبقدرة القوم على
رؤية ما يرى من تقدمهم لكونه أكثر منهم علماً ومعرفة –كما يرون ظاهراً-، حيث أنه
"يرى ما لا يرون"، وما صاحب ذلك من التعصُّب لرأي قائدهم، حتى باتت الحقيقة
القائمة أمامهم مُنكرةً، والتي كان يمثلها هارون، وهو نبيٌ من أنبياء الله وخليفة موسى
في قومه. أما العامل الثالث فقلة حيلة هارون أمام جبروت القوم وجرأتهم عليه حتى خشي
"شقّ الصف" و "فرَّق القوم"، وهو ما قدمه هارون من عذرٍ صريحٍ
لنبي الله موسى عليه السلام عندما عاد من ميقات ربه ورأى ما رأى من انحراف القوم، حيث
قال هارون عليه السلام: (إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي). فهذه الخشية دفعت بالحق للضعف أمام الباطل حتى ساد الباطل
وانحرف القوم عن الحق إلا قليل.
السؤال
الثاني: هل كان السامري ليُفلح في ما ذهب إليه من رأي ورؤية لولا أن ناصره القوم؟
وقد
بيَّنا جانباً من هذا الأمر في ما سبق، حيث لعبت العناصر والعوامل المساعدة في حرف
القوم عن طريق الحق، ونضيف هنا أمراً واحداً فقط من عدة أمور أخرى لتثبيت الإجابة على
هذا السؤال، هذا الأمر هو أنهم تبنَّوا هذا الرأي (فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ
مُوسَى)، وليس قول السامري وحده، وإن كان هذا الرأي قد انطلق منه بالأساس، إلا أنهم
تبنَّوه رغم خطئه وتمسّكوا به ودافعوا عنه وهاجموا صاحب الحق هارون النبي لما أراد
منعهم، ولو أنهم أعملوا عقولهم لما كان ما كان من الأمر، ولنُبِذَ السامري ورأيه فغلب
الحقُّ الباطل.
السؤال
الثالث: ما هو الخوار؟ ولماذا انجذب خلفه القوم؟
الخُوار
(بضم الخاء) هو صوت البقر والغنم والضباء والسهام، حسب معاجم اللغة. والعامل المشترك
بين هذه الأصوات هي أنها "ضجيج" ليس لها "معنى" مفهوم في الكلام.
سامريُّ قوم موسى صنع العجل "من حُلي القوم" مستخدماً "ما يراه ولا
يراه الآخرون" من معرفة، فبدى عجله ناطقاً وأبهر من أعاروه عقولهم فتهافتوا خلف
الصوت وقد أغمضوا أعينهم عن حقيقة أنه مجرد ضجيج لا معنى له، فصاروا يطوفون بعجله،
مستأنسين بخواره، وراجين منه ما يرجو العبد من خالقه، لكن رجواهم كانت لإله مصطنع بعين
الإله الواحد الذي لا شريك له.
كان
عجل السامري من ذهب، ومع ذلك لم يكن صوته سوى "خوار"، وكذلك هو حوار القوم،
مادته هي الحلول السياسية والديمقراطية والتوافقات والحقوق وغير ذلك من "القِيَم"
والأسماء الرنّانة التي ليس ما ينتج عنها سوى خوار. الصورة هي هي رغم اختلاف الشكل.
السؤال
الرابع: ما كانت حجة هارون؟ وما كانت ردة فعل موسى عليهما السلام؟
انتهى
ميقات موسى عليه السلام ولقاؤه مع ربه، حيث أخبره بأن القوم قد مُحِّصوا فأضلَّهم السامري
(فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا) على تركهم الحق البيِّن وتمجيدهم
لعجلٍ أُعطي صفة الإله، مستنكراً فعلهم هذا بعد أن رأوا من الله ما يثبت صدق وعده،
فــ(قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ
الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم
مَّوْعِدِي)؟ وكانت منهم الإجابة بالإقرار بفعلهم الشنيع دونما حياء، لأنهم ببساطة
كانوا يظنون أنهم يُحسنون صنعاً، رغم أن هارون عليه السلام قد نبَّههم ونهاهم عن الأخذ
برأي السامري وترك الحق (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا
فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي)،
غير أنهم أصروا إصراراً فـ(قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ
إِلَيْنَا مُوسَى).. لذلك تحول موسى عليه السلام بالسؤال والعتب الشديد إلى أخيه هارون
النبي فـ(قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلاَّ تَتَّبِعَنِ
أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي).. قال ذلك وقد أخذه الغضب حتى قال هارون عليه السلام (يَا ابْنَ
أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ
بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي).. نعم، كان عُذر هارون أنه
"لا يريد شق الصف" و"تفريق القوم"، رغم علمه أن القوم على باطل
وأن الحق مع الله ومع موسى كليم الله، فهل قبل موسى عليه السلام هذا العذر من أخيه؟!
الإجابة
في الآية اللاحقة، حيث تشير إلى أن موسى عليه السلام توجَّه بالسؤال إلى السامري (قَالَ
فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ)؟ ولو كان عذر "شق الصف" مقبولاً لاكتفى موسى
عليه السلام بإجابة هارون، ولما توجَّه بالسؤال نحو السامري. هذا من جهة، أما من الجهة
الأخرى فإننا نجد في هذا المشهد أن موسى عليه السلام لم يُصر بسؤاله على هارون، وإن
لم يرَ أن عذر شق الصف عذرٌ مقبولٌ بدليل إصراره على طرح السؤال، غير أنه غيّر وجهة
السؤال من هارون إلى السامري ليُقرر بذلك أن شق الصف سببه هو السامري الذي عمل برأيه
فحرف القوم عن طريق الحق، فعُذر شق الصف في حد ذاته لم يكن مقبولاً، وإنما اعتذار هارون
هو المقبول لكونه قد استُضعِف حتى كاد يُقتل، ولولا ذلك لاستمر في نهي القوم عن ضلالتهم.
ومفاد
ذلك، أن مجرد الاحتجاج بوحدة الصف ليس ليُقبل كعذر إذا كان يترتب عليه مفسدة، إلا إذا
كانت تصاحبه خشية من إزهاق النفس التي حرَّم الله دون وجه حق، وما عدا ذلك، فإن الساكت
عن الحق شريكٌ في الجرم.
السؤال
الخامس: كيف كانت نهاية السامري، ونهاية العجل وخواره؟
لقد
تمكّن السامري أن يجر القوم برأيه إلى الهلاك والانحراف عن طريق الحق والصواب، فظنوا
بالله ظن السوء، إذ نسوا وعده الصادق، ثم انتهى الأمر بهم إلى أن أشركوا بالله عجلاً،
لم يكن يُسمع في الأرجاء سوى صوت خواره الذي كان القوم يستبشرون به أيما بُشرى، ويأملون
منه ويرجون ما يأملون ويرجون من خالق الخلق وبارئ النفس، لكن هذا الضجيج سرعان من انتهى
لأمر كان مقضيا، حيث وعد الله صادق ولا يخلف الله وعده، فأما السامري فكان حكم الله
عليه أن (قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ
لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ)، وأما عجله وما كان يحدثه من ضجة وضجيج فكان مصيره
النسف (وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ
ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا)، لتظل الحقيقة الواحدة غير القابلة للتأويل
أو التجزئة هي (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ
كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)، فلا مكرٌ ولا خداعٌ مع الله، ومهما علا ضجيج الخوار فانبهر
به من انبهر، فإن نهايته لن تكون أفضل من نهاية كل خوار سبقه، ومصير العجل لن يكون
بأفضل من مصير العجول السابقة، لأنها ببساطة سنة الحياة ووعد الله الصادق.
صوت
الثورة
@14FebTV
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق