خرج
الناس في بداية ثورة 14 فبراير مطالبين بإصلاحات محدودة في النظام البحريني، عقبها
تحوّل المطلب إلى إسقاط النظام بعد سقوط أول شهيد والتيقُّن بأن هذا النظام لا توجد
لديه أدنى بادرة لإصلاح نفسه بعد كل ما فعل من انتهاكات، وهذا ديدن الظلمة على مر العصور،
وهو ما بيّنه قرآننا الحنيف ونبينا الكريم (ص) والأئمة عليهم السلام قبل مئات السنين،
والأنبياء قبلهم بآلاف السنين.
واقعا
إن أكثر من تجاوب مع بداية إعلام الثورة المحدود هو النظام نفسه لا الناس، فالناس كان
تجاوبهم الأساسي الهتاف ورفع الأيدي أثناءها، فلم يفكروا في الضرب أو القتل أو ما شابه،
فقط سيقومون بثورة هادئة يعبِّرون فيها أنهم غير راضين عن وضعهم المعيشي في وطنهم وأنهم
يريدون شيئا من حقهم في خيرات هذا الوطن... أما النظام فقد جيَّش الجيوش وأعدَّ الأسلحة
واستعد بتعطُّشٍ للدماء... وإلا فما مبرر إطلاق الرصاص والشوزن ليتفجّر رأسٌ هنا ويتقطَّع
لحمٌ هناك لمجرد أنه رفع يديه وصوته الخاليين من السلاح والتحريض على القتل؟!
هنا
بدأت الثورة فعلا وبدأت الناس تخرج، وزاد الإعلام والزخم المهيب، وظهر من هذه الجموع
أناس مبدعون بشكل يومي ومستمر يثير العجب!! مصوِّرون محترفون... ممنتجون محترفون...
ناشرون محترفون... متكلِّمون محترفون... رسّامون محترفون... مسعفون محترفون... كتّاب
مبدعون... مفكّرون مبدعون لفعاليات غريبة وجديدة من نوعها... أظهروا الثورة وأوصلوها
لأصقاع العالم بإمكانيات محدودة وأموال متواضعة، وانتصروا إعلاميا على إعلام النظام
الذي يدفع الآلاف لموظفيه، والملايين لوسائل التصوير الحديثة!
ألا
يدل هذا الانتصار على قوة هؤلاء المبدعين وأحقية قضيتهم وتفوّقها على المتخصصين الإعلاميين
التابعين لخط النظام الباطل؟!
سألنا
أنفسنا بالأمس: من أين أتت كل هذه الطاقات والإبداعات، وأين كان كل هؤلاء المبدعين
مغمورين خلال تلك السنين؟!... وكنا نقول في أنفسنا: هنيئا لنا بهم...
أما
اليوم فقد اختلف الوضع كثيرا وتغيّر السؤال، فقد أصبحنا نسأل أنفسنا: أين اختفى كل
هذا العدد من المبدعين ولماذا اختفوا؟!
لوحظ
في الفترة الأخيرة انسحاب العديد من الإخوة والأخوات العاملين في المجال الثوري والسياسي،
وبالتالي انخفض مستوى الإعلام الثوري كثيرا، وقد أصبح الغالب على الناس الابتعاد عن
السياسة والثورة إلا في أوقات معينة كفعاليةٍ هنا أو خبر هناك، بل حتى الكلام في هذه
الأوقات والفعاليات تكون نادرة، فهي لا تتجاوز الساعتين في أيام الإجازة الرسمية، ثم
تعود الحياة طبيعية بعد كل الاعتقالات والانتهاكات!
لسنا
هنا بصدد بيان مواقع الخلل التي بسببها وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم في الثورة، فالكثير
حلّل وتحدث حول هذا الأمر، كما أن الوضع أصبح مملا عموما، فلا وسائل حقيقية لهزيمة
العدو، وأغلب العقول تسودها التبعية المفرطة للعمائم الزرقاء ومن تبعها بإحسان، ولكن
كلامنا سيتركز بسؤال آخر وهو:
هل
من الصحيح أن نظهر طاقاتنا وإبداعاتنا وقت الثورات فقط؟ ماذا لو انتهت الثورة ولم تكن
هناك ثورة أخرى.. هل ستختفون للأبد؟! هذا ما نريد الكلام عنه...
أولا
فلنسأل أنفسنا: أين ذهب هؤلاء المبدعون؟
هل
أصابتهم ظروف قاهرة؟... صعب جدا، صعب جدا أن ينسحب هذا العدد الكبير من الساحة لظروف
عائلية أو لظروف عمل قاهرة أو لأنه مطلوب من قبل النظام أو غير ذلك!.. نعم.. نستطيع
القول بأن هناك من لديه ظروف قاهرة إجمالا، ولكننا لا نستطيع أن نقول بأن الجميع معذور
ولهم ظروفهم القاهرة، ففترة الانسحاب الزمنية واحدة تقريبا، وصعب أن يتفق حصول ظروف
قاهرة لنا جميعا ومناطقنا مختلفة ولا نعرف بعضنا، ولا تطور في أحداث الثورة بشكل يجعل
كل هذا العدد الكبير مطلوبا فجأة ولا أحد يعلم عنهم، كما أن أسباب الانسحاب مجهولة
بأن يقال "ظروف الحياة الصعبة" أو "مشاغل الحياة والعمل" أو
"الأولاد والمنزل والجامعة".. هي كلمات عامة تعني "أنا أقول وأنت افهم
وانتهى.. وطبعا لا تسأل عن تفصيلات".. كل هذه قرائن تدل على أن هناك انسحابات
ليست لأسباب قاهرة..
حسنا،
هل تم اعتقالهم جميعا؟... لا يمكن ذلك، فنحن نعرف أن الكثيرين ممن انسحبوا من الساحة
اليوم وتركوا ما كانوا يفعلونه من أعمال ألزموا أنفسهم بها بالأمس، ولم يكونوا يتوانون
أو يتقاعسون في العمل حتى مع ظروفهم الصعبة..
إذاً
هل أصابهم اليأس ورأوا أن الثورة خمدت وانتهت؟... أمر وارد.. وارد جدا.. فهناك من تعب
وتململ ويأس فعلا.. وهو أمر طبيعي مما نراه من وجود مسيطِرة وعقول مسيطَرة.. عقول مُزرَقَّة
وعقول مُحْوَلَّة... فلا قيادة واعية ولا شعبٌ واعٍ.. ولكن هناك بالمقابل أيضا من لم
يصبه أيٌّ من ذلك، بل له ظروفه الخاصة القاهرة فقط..
هل
هناك أسباب أخرى؟... عن نفسي أنا كاتب الموضوع لا أعلم أسبابا أخرى وننتظر من يعطينا
أسبابا أخرى للنشر والمناقشة للفائدة...
والآن
نأتي لصلب موضوعنا وهو: هل من الصحيح أن نظهر طاقاتنا وإبداعاتنا وقت الثورات فقط؟
الجواب:
عندما نسأل أنفسنا أو غيرنا عن كيفية اكتشاف إبداعاتنا كالتصوير أو الكتابة أو الرسم
أو غير ذلك تأتينا غالبا هذه الإجابة: كلمة (الثورة) أو مقولة (الحاجة أم الاختراع)
-والتي تعني الثورة أيضا ولكن بشكل غير مباشر-، وهو في نفسه أمر جيد بأن عرفنا أننا
نملك عقلا نشطا في تخصص أو أكثر، ولكن المصيبة هو ترك ما نجيده ونبدع فيه بدعوى الانشغال!
لدينا في كلِّ يوم أربع وعشرون ساعة ولا نستطيع أن نعمل ما نجيده لفائدة أنفسنا والآخرين،
ما هذا؟! يجب أن نعمل للنفس لا للثورة...
سنضع
تخصص وفن "الكتابة" كمثال لنستطيع فهم الفرق بين "العامل للثورة"
و"العامل للنفس"...
الفرق
بين "الكاتب للثورة" و"الكاتب للنفس":
-
الكاتب للثورة طاقته محدودة، فهو لا ينشط إلا عند وجود ثورة، فإذا لم توجد ثورة في
حياته فسيكون إبداعه صفرا، أما الكاتب للنفس فهو يفيد نفسه بمواصلة الكتابة، والذي
هو مواصلة في تنمية فكره، وهذا سيعطيه خبرة في الكتابة تفيده فيما لو أتت ثورة، ولن
يخسرها لو ذهبت هذه الثورة.
-
الكاتب للثورة متابعته محدودة، فهو يتابع الثورة ما أمكنه، ولكن لو توقفت الثورة توقفت
متابعته، ولكن الكاتب للنفس متابعته للأمور تجعله يتابع أولا ليكتب، ويستمر في المتابعة
ثانيا ليستمر في الكتابة، ولذا فعلى من عرف أنه يملك موهبة الكتابة أن يكتب أولا، وأن
يستمر في الكتابة ثانيا.
نصائح
أخيرة:
-
يجب على الكاتب أن يقرأ كثيرا ويتعلم كثيرا عبر سمعه وبصره وحواسه ليتفجَّر فيه حب
الكتابة، أما إن كانت كتابته لحدث يمكن مؤقت فلن يستفيد ولن يفيد الآخرين إلا مؤقتا،
فيجب على الكاتب أن يكتب ليفيد نفسه أولا بأن يبحث ويكتب ويقرأ ليزداد خبرة ونضجا فكريا،
وهذا سنعكس عليه بتعليم الآخرين وإفادتهم.
-
يجب أن الكاتب أن ينظر للرضا قبل الكتابة... رضا الله ورسوله... رضا الناس... وفِّق
ما استطعت بين الرضائين في الكتابة... ولكن إن كان عليك الاختيار... فاختر الصواب ولو
لامك الناس... ولذا فعلى الكاتب أن يتحرى الدقة قبل الكتابة، فإن كتب كذبة هنا وانحرافا
هناك فستكون في رقبته يوم القيامة.
-
إن كنت تستطيع الكتابة في الدين فاكتب... إن كنت تستطيع الكتابة في السياسة فاكتب...
إن كنت تستطيع الكتابة في الشعر فاكتب... إن كنت تستطيع الكتابة في المشاكل الاجتماعية
والأسرية فاكتب... اكتب ثم اكتب ثم اكتب... اجعل أحرفك حياةً لأرواح تقرؤها... أحرفٌ
ترشد من ضلّ الطريق... أحرفٌ تسعد الشخص الغريق... أحرفٌ تقتل الحزن العميق... أحرفٌ
تعينك يوم لا مالٌ ولا صديق...
-
نحتاج أولا أن نبدع في وضع قواعد في عقولنا نعلِّم فيها أنفسنا أن يستمر إبداعنا فيما
نجيده بعد معرفته... نحتاج أن نعرف كيفية استغلال الـ24 ساعة ما أمكن... لا تقل للناس
أنك "مشغول" وأكثر شغلك في يومك هو النوم والجلوس عند التلفاز! لا تقل بأنك
مشغول وشغلك هو "الفراغ".
أيها
الكاتب المنسحب أو المختفي من الثورة ومن شتى وسائل التواصل... أنت اليوم لا تفيد أحدا
ولا تفيد حتى نفسك... اكتب لنفسك تُفِدْ المجتمع... اكتب لنفسك تُفِدْ الناس... ولكن
يجب عليك أن تركِّز في الكل لا الجزء... اكتب لنفسك لا للثورة...
حقي
كإنسان
@eHAQYe
15-03-2013